الأربعاء، 15 أغسطس 2012

الكلمة اسم وفعل وحرف


الكلمة اسم وفعل وحرف



تقول الحكاية إن أبا الاسود الدؤلي مر برجل يقرأ القرآن فوجده يقرأ ويقول: (إن الله بريء من المشركين ورسوله)، وينطقها بكسر اللام، أي بعطف رسوله على المشركين، فساءه أن تغير القراءة في معنى القرآن، فغدا إلى الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فروى له ما سمع، فتناول الخليفة رقعة وكتب عليها: "الكلمة اسم وفعل وحرف، فأما الاسم فما أنبأ عن المسمى، وأما الفعل، فما أنبأ عن حركة المسمى، وأما الحرف، فما أنبأ عن ما ليس اسماً ولا فعلاً". ثم التفت إلى أبي الاسود وقال: "انحُ هذا النحو يا دؤلي".
وهكذا ولد علم النحو.

واليوم، في مكتب قرطبة في دبي، ومع حفظ الاحترام للصحابي الجليل صاحب نهج البلاغة، لا زلنا نضع معايير الكتابة لأي مشروع يتطلب الترجمة إلى العربية أو الكتابة فيها، ثم نقول: انحُ هذا النحو يا صديقنا المترجم والكاتب.

من أين نبدأ حديثنا عن عالم الترجمة إلى اللغة العربية؟ من الظلم أن نبدأ بالحديث عن المسافة الكبيرة التي لا تزال تفصلنا عن هدفنا في مهنة ترجمة أكثر تنظيماً وفعالية، لأن من الظلم أن نشير إلى هذا قبل الاشارة إلى المواهب الفذة التي تعمل ليل نهار للوصول إلى هذا الهدف. ولأن الشغف يجذب الشغف، فقد حالفنا الحظ في قرطبة في أن نتعرف على العشرات والمئات من هؤلاء المبدعين. لا نرغب أن نكون كمادح نفسه الذي يقرؤكم السلام، ولكننا في قرطبة نؤمن بأهمية العنصر البشري في مهنة الابداع، ولذلك فنحن نعتقد أننا في نهاية المطاف سنكون قبلة جميع المبدعين في عالم المحتوى العربي. كيف؟ سنجيبكم على هذا، ولكن في يوم آخر. أما اليوم فسنجيب على سؤال مختلف: كيف وصلنا إلى هنا؟ وأين نحن من إرث اللغة العربية التي كانت أول لغة تبنت الترجمة كفن إبداعي أساسي، وكمهنة تخصصية، وكجسر ثقافي يصل أقاصي الشرق بأقاصي الغرب؟

في ماضي اللغة العربية، ضرب جلاد الخليفة أبي جعفر المنصور عبدَالله على يده حتى "تقفَّعت"، فسمي ابن المقفع. كان عبدالله ابن المقفع أول شخص في التاريخ يدفع هذا الثمن مقابل كتاب ترجمه عن الفارسية، سبقه من ترجمه عن السنسكريتية. طبعاً خلَّد كتاب كليلة ودمنة صاحبَه كما خلَّدتْه يدُه المقفَّعة.

لحسن الحظ، لا ندفع أيدينا اليوم ثمناً لما نترجم، ولكن الكثيرين منا يدفعون ساعات راحتهم وآلام ظهورهم ثمناً لتقديم محتوى عربي على أعلى المستويات. لا ندَّعي من الفضل ما ليس فينا، ولكننا ولا شك أقرب لمترجم كليلة ودمنة من حنين ابن اسحق، الذي كان يقبض وزن كتبه ذهباً من الخليفة المأمون، أثناء عمله في أول مؤسسة متخصصة بالترجمة في التاريخ، دار الحكمة في بغداد.

طبعاً نتمنى أن يقدم لنا عملاؤنا وزن ما نكتبه ذهباً، ولكن حتى وإن حصل ذلك، كم يبلغ وزن ملف برنامج وورد الذي نضع فيه ما نترجمه؟ ستكون الصفقة خاسرة ولا شك. لذلك نكتفي اليوم بشعورنا الرائع في كل يوم نرى فيه ما نكتبه وقد أحدث فارقاً في الحياة الثقافية والعلمية والعامة في عالمنا العربي، كما يسعدنا أن نقف في مرتبة واحدة مع مؤلف أول كتاب في أصول الترجمة في التاريخ البشري. هل قرأتم أعزاءَنا كتاب "آراء الجاحظ"؟ سيدهشكم كم من أفكار هذا الكتاب الذي أتم 1250 عاماً من العمر لا يزال صالحاً كدليلٍ عصري للترجمة إلى العربية.

حين نتحدث عن المحتوى العربي اليوم، فنحن نتحدث عن العلوم والطب والثقافة والسياحة والأدب وغير ذلك الكثير من المجالات التي تدخل مهنتنا في أدق تفاصيلها. نعم، نفتخر كمترجمين بأن فضلنا عابرٌ للقارات والمجالات الانسانية. ولكن حين بدأت اللغة العربية باستعادة ألقها بعد أربعة قرون من سياسة التتريك التي كادت تدفنها، كان الأدب هو البوابة التي دخلت منها إلى العصر الحديث. ألا تسعد صديقي المترجم أن زملاءك في هذه المهنة النبيلة هم عمالقةٌ كبار من أمثال طه حسين وأحمد حسن الزيات ومصطفى لطفي المنفلوطي وتوفيق الحكيم؟ ربما لا تعني هذه الأسماء كثيراً لجيل الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ماذا إذاً عن ممدوح عدوان ومي زيادة والدكتور سامي الدروبي؟

نعم، نحمل كمتخصصين في المحتوى العربي، وكأفراد في عائلة قرطبة الجميلة، إرثاً يمتد على ألفيّةٍ ونصف من العمل الذي ترك آثاره في الحضارة الانسانية. نحن حجر الأساس في حوار الحضارات، وفي تقدم مجتمعنا الذي نعشق، وفي الانتقال إلى مهنة أكثر فعالية وقدرة على نقل معارف العالم إلى لغتنا، ومساعدة معارفنا لتصل إلى يوم يرغب العالم بنقلها إلى لغاته الحية الكثيرة.

مرحباً بكم في المستقبل!


مي حبيب هي مؤسسة قرطبة ومديرتها التنفيذية
د. علي محمد هو مدير التحرير في قرطب

منقول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.